يقول أحمد شوقي في الأسطول الإسلامي:يا معشر الإسلام في أسطولكم
عـــز لـكــم ووقـايـــة وســـلام
جودوا عليه بمالكم واقضوا له
مـا توجـب الأغــلاق والأرحـام
لو تقرئــون صغاركــم تاريخـه
عــرف البنون المجد كيف يرام
الصراع بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية
ظهرت في القرن الثالث للميلاد عوامل تغيير كبيرة في المنطقة المجاورة لشبه الجزيرة العربية، من أهمها وصول الساسانيين إلى حكم الإمبراطورية الفارسية منذ عام 225م، واتجهت الإمبراطورية الرومانية سيدة الملاحة في البحر المتوسط نحو الشرق، وكان التحول الكبير عندما نقلت عاصمتها إلى القسطنطينية عام 330م . واحتدم الصراع بين الإمبراطوريتين في ميادين عدة، وكانت التجارة واحدة من هذه الميادين .ونجحت الإمبراطورية الفارسية في إحكام سيطرتها على تجارة الشرق الأقصى وبخاصة تجارة الحرير براً وبحراً. كما سيطر الاكسوميون –الأحباش- على الملاحة والتجارة في البحر الأحمر بسبب ضعف العرب والضعف اليوناني والروماني في تلك المرحلة.وظلت السيطرة للعرب على الطريق التجاري البري المار عبر أراضيهم في غرب شبه الجزيرة العربية من اليمن حتى تخوم الشام، وقد مارس السيادة على هذه الطريق كل من قريش والغساسنة والمناذرة على طرفي بادية الشام.الفتوحات الإسلامية وتغيير المنطقة العربية
ظهر الإسلام في قلب المنطقة العربية وانتشر في مختلف بقاع العالم. ووحدت الفتوحات العربية الإسلامية السيادة على منطقة العربية ومناطق كثيرة مجاورة لها. وأحدث هذا الأمر تغيرات هائلة في الأوضاع السائدة في المنطقة وما حولها في كل نواحي الحياة ومن أهم هذه التغيرات:
1- وحدت الفتوحات العربية منطقة العراق والخليج العربي مع سورية ومصر، وأزالت الانقسام الذي أوجده خلفاء الإسكندر، ثم تكرس في أيام سيادة الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية. ونتج عن ذلك خضوع طريقي الخليج العربي والبحر الأحمر اللذين يعدان طريق الانطلاق نحو الشرق الأقصى فاستعملا جنب إلى جنب طوال عصر السيادة العربية الإسلامية، وظلا طريقين متساويين يسلك كل منهما لبلوغ ما قاربه من أرض الخلافة.2- كان البحر الأبيض المتوسط بحيرة رومانية وامتدت سيطرة البيزنطيين عليه لفترة طويلة، وكان لهم أسطولهم البحري القوي وممتلكاتهم المترامية الأطراف التي تشمل جزءاً من أوروبا إضافة إلى سورية ومصر والمنطقة القريبة من الساحل في الشمال الأفريقي. لكن الفتوحات العربية الإسلامية أفلحت في الحد من هذه السيطرة وانتزعت من البيزنطيين كل شواطئ المتوسط الشرقية والجنوبية والغربية. ولم يبق لبيزنطة سوى الشواطئ الشمالية.وقد حاول البيزنطيون استعادة ما فقدوه عن طريق الإغارة على الشواطئ العربية الإسلامية بأسطولهم القوي، الذي فرض حصاراً على الشواطئ العربية ومنعها بالتالي من القيام بأية مبادلات تجارية مع البلاد التي كانت تتعامل معها قبل الفتح الإسلامي. مما دفع العرب المسلمين نحو التوغل أكثر باتجاه الشرق والتركيز على التجارة مع الشرق الأقصى .يعد القرن الأول الهجري / السابع الميلادي بداية مرحلة تحول كبرى في تاريخ العرب الاقتصادي والسياسي والحضاري، حيث خرج العرب من موطنهم الأصلي في شبه الجزيرة العربية حاملين راية الإسلام إلى جيرانهم من الأمم. وقد استطاع العرب بحماسهم لنشر الدين الجديد فتح أهم بقاع العالم القديم، الممتدة من نهر الفرات شرقاً إلى نهر النيل غرباً بسرعة خاطفة. ثم أخذ يستعدون لنشر الدين الإسلامي في مختلف أرجاء العالم.العرب المسلمون وركوب البحر
لم يعرف العرب قبل الإسلام ركوب البحر إلا قليلا، أيام كانوا يتقلبون فيه للتجارة على سفن الروم التي كانت تمر ببلادهم، ثم تكرر ركوبهم البحر في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما هاجر بعض الصحابة من الحجاز إلى الحبشة مرتين هاربين بدينهم الجديد من عسف قريش.أما الغزو في البحر فلم يحدث في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وان كانت بعض الآثار تذكر أنه تنبأ للمسلمين بركوبه، ولم يحدث كذلك زمن صاحبيه من بعده أبى بكر وعمر رضي الله عنهما، لأن العرب بدو بطبعهم يهابون البحار، ويفضلون سفينة الصحراء على سفينة الماء، ولذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهى قواده عن ركوب البحر، ويعده حصناً طبيعياً بينه وبين أعدائه، ولم يخالف هذا إلا رجلين، لقيا منه العقاب على مخالفتهما بركوب البحر للقتال:
أما الأول فهو العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه، الذي كان يحارب المرتدين بالبحرين، ثم بقي فيها مجاهداً فلما تقدَّم في فتح فارس منافسه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أراد أن يصنع في الجهاد صنعه، وأنسته المنافسة وثقته بالنصر نهى الخليفة السابق، عن ركوب البحر، وبسبب مخالفته وخسارته في معركته مع الفرس بعد ركوبه البحر لقتالهم، عاقبه الخليفة عمر بعزله عن الولاية وأمره بالتوجه إلى سعد بن أبي وقاص ليعمل تحت قيادته.والثاني هو القائد عرفجة بن هرثمة سيد قبيلة بجيلة، فان الخليفة عمر الفاروق أغزاه بلاد عمان، فبلغه أنه ركب البحر فأنكر عليه ذلك وعنَّفه.ويروى أن العرب المسلمين قد ركبوا البحر في عام الرمادة سنة 18هـ، عندما أصيب أهل المدينة المنورة بمجاعة في ذلك العام، فاستنجد الخليفة بوالي مصر عمرو بن العاص رضي الله عنه، وظل ابن العاص يرسل الطعام إلى المدينة عن طريق البحر حتى أصبح سعره بالبلدين واحداً.هذه هي المرات الثلاث التي ركب فيها المسلمون البحر زمن عمر بن الخطاب، وقد طلب منه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أيام ولايته على الشام، أن يأذن له في الغزو بحراً ليرد هجمات البيزنطيين، التي كانت تحصل على السواحل الشامية، فنهاه الخليفة نهياً مشددا، وأنذره بعقاب أشد من عقاب سابقيه من المخالفين، وكان مما قال له: "تالله، لمسلم واحد أحب إلى مما حوت الروم، فإياك أن تعرض لي وقد تقدمت إليك، وقد علمت ما لقي العلاء منى ولم أتقدم إليه في مثل ذلك".لقد كان الجهاد البحري عند المسلمين أشق وأصعب، لأن حاجته للفن الحربي أكثر، وذلك لعدة أسباب أهمها:
- المجال في البحر ضيق، ولا تكاد السهام أو الحجارة تخطيء، وكل رشق فيه ينكأ ويصيب.
- قد تأتى الرياح بما لا يهوى قائد الجهاد البحري، فيغلب على أمره وقد تسكن وقت حاجته إليها، فيكون الضرر والإحراج، على خلاف البر الذي يكون القائد فيه حر الحركة .
- في الحروب البحرية لا يستطيع القائد أو الجيش الهرب أو الفرار، ولا الاستتار بالحصون والأسوار
- صعوبة استخدام الأسلحة الثقيلة بكثرة، لأن المنجنيق وهي من أهم الأسلحة في ذاك الزمن ثقيلة الحمل على السفن وتحتاج إلى أعداد كثيرة من الجند لإدارتها .
ويشترط في أمراء البحر معرفة مسالك البحر وضواحيه، وعلامات الريح وتغير الأنواء، والإلمام بالحركات البحرية من المد والجزر وغيرها، كما يجب أن يكون خبيراً بالسفن ليختار الجيد منها، ويكثر تقويتها، ويدخر فيها آلاتها، حتى إذا تلف شيء منها وجد ما يخلفه. فإنه الأصل الذي يعول عليه في البحر، وإلا كانت سفنه عرضة للغرق وجيشه عرضة للدمار.أما سلاح المعارك البحرية، فمعظمه من السلاح الخفيف، ولم يستخدم المنجنيق فيها إلا بعد أن ضخمت حجوم السفن وزادت أعدادها، فكانت تخصص له مركب لحمله وحمل حجارته، وحمل الجنود الذين يعملون عليه ثم يقوم برمي مراكب العدو بالحجارة، والقوارير المملوءة بالنفط أو الجرار المملوءة بالجير الحي المدقوق، الذي يعميهم إذا أصاب عيونهم، ويلتهب عليهم في هواء البحر المشبع بالبخار، كما كان يرمي القدور المملوءة بالصابون، التي كانت تجعل أقدام العدو تنزلق فوق السفن، فلا يستطيعون القتال، ويكونون عرضة لسلاح المسلمين.نشأة الجهاد البحري العربي الإسلامي
في عهد عمر بن الخطاب:
بدأ تاريخ الجهاد البحري الإسلامي في البحر الأبيض المتوسط في عصر الخلافة الراشدة، حين استولى عمرو بن العاص على موانئ غزه وعسقلان وعكا في عام 15هـ. ثم استولى يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه والي الشام في عهد بن الخطاب على صيدا وصور وبيروت وجبيل سنة 17هـ. كما استولى عبادة بن الصامت رضي الله عنه بأمر من يزيد بن أبي سفيان على موانئ تقع في شمال الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط مثل اللاذقية وجبلة. وفي سنة 20هـ استولى عمرو بن العاص على الإسكندرية، وعلى برقة في سنة 22هـ. وهذا يوضح لنا أن المسلمين قد سيطروا على شواطئ الشام ومصر وطرابلس الغرب في العصر الراشدي.في عهد عثمان بن عفان
ولما آلت الخلافة إلى عثمان بن عفان أخذ معاوية بن أبي سفيان يزين للخليفة اقتناء السفن ويؤكد على شدة الحاجة إليها، حتى أذن له الخليفة في استخدامها، ولكن اشترط عليه أن يجعل ركوب البحر والغزو فيه اختياريا بين المسلمين. وبذلك بدأ معاوية بناء السفن التي كانت نواة الأسطول العربي الإسلامي، وصار بواسطته يرد على تحرشات الأسطول البيزنطي فغزا جزيرة قبرص 28هـ وكانت هذه أول غزوة بحرية للمسلمين، وكان نصرهم فيها مشجعاً لهم على تدعيم الأسطول وتطويره لمتابعة الغزو بحراً. وأصبحت قبرص قاعدة للمسلمين في البحر الأبيض المتوسط تموِّن أساطيلهم وتبلغ إليهم أخبار عدوهم.وجاءت بعد ذلك المعركة البحرية المشهورة ذات الصواري في عام 34هـ عندما انتصر الأسطولين الشامي بقيادة معاوية بن أبي سفيان والمصري بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي السرح رضي الله عنه على الأسطول البيزنطي بقيادة قسطنطين بن هرقل، وكانت الضربة القاضية الموجهة للأسطول البيزنطي وسيادته على البحر الأبيض المتوسط.وظل الأسطول العربي الإسلامي يضيق الخناق على الأسطول البيزنطي، وبخاصة عندما استولى على المراكز البحرية الهامة والجزر الرئيسة في المتوسط مثل قبرص وصقلية ورودوس وكريت، التي تحولت إلى قواعد انطلق منها المسلمون والأسطول الإسلامي لغزو القسطنطينية، وظلت هذه المحاولات في فتح القسطنطينية مستمرة حتى وفاة معاوية رضي الله عنه.بعد معاوية ظل الأسطول العربي الإسلامي في نمو مطرد، وظلت صوائفه وشواتيه تقلق الروم في كل عام، وتهدد سواحلهم كما يهددون سواحل المسلمين، ثم عاد المسلمون لمحاصرة القسطنطينية أيام سليمان بن عبد الملك بالتعاون مع الجيوش البرية، ثم فك الحصار عنها بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي كان يفضل السلام ويرى الخير فيه.وكان من الطبيعي أن يستغل المسلمون أصحاب الصناعة البحرية في بناء السفن، وبخاصة عمال الروم الذين كانوا خبراء فيه، فهذا حسان بن النعمان عامل أفريقية في عهد عبد الملك بن مروان يبني بتونس دارا لصناعة السفن، والآلات البحرية وبنى موسى بن نصير بتونس دارا لصناعة السفن ثم أهتم حكام الإقليم الإسلامية بالسفن اهتمام هذين القائدين حتى شمخت أساطيل المسلمين، ولم يعد للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم.ومن أهم العوامل التي دعت إلى بناء الأسطول البحري العربي الإسلامي:
1- سعي المسلمين إلى فتح القسطنطينية، بهدف القضاء على الإمبراطورية البيزنطية.
2- توفر المواد الخام اللازمة لبناء السفن وبخاصة وجود الأشجار ودار للصناعة والصناع والملاحين في مصر والشام.
3- ارتباط مصر والشام في الجهاد والعمليات الحربية ضد البيزنطيين.الجهاد البحري في عصر الدولة الأموية
ومع بداية الدولة الأموية 40هـ أخذ البحر الأبيض المتوسط يتحول إلى بحيرة إسلامية، حيث أنشأ الأمويون الأساطيل ودور بناء السفن وصناعتها وقاموا ببناء السفن البحرية والتجارية بشتى أصنافها وأحجامها، وأصبحت تونسوالإسكندرية ورشيد ودمياط وصور وعكا وطرابلس واللاذقية قواعد بحرية للأسطول العربي الإسلامي والملاحة التجارية. وكان من نتائج فتح المسلمين للأندلس 92هـ- 97هـ أن استولى المسلمون على كل الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط بما في ذلك سبتة وطنجة، كما دخل تحت السيادة العربية الإسلامية كل الشاطئ المتوسط لشبه الجزيرة الأيبيرية، إضافة إلى شاطئ الريفيرا الفرنسية ومعظم الريفيرا الإيطالية. وامتدت السيادة العربية الإسلامية إلى الشواطئ الشرقية للمحيط الأطلسي، من مصب نهر المينو في إسبانيا شمالاً إلى وادي درعة جنوبي الغرب الأقصى. وقد أظهر العرب مع بداية القرن الأول للهجرة وحتى نهاية القرن الرابع وعيا بحريا ناضجا، وقدرة فائقة على ركوب سفن البحار وبنفس المهارة التي قادوا بها سفن الصحراء عبر الكثبان والرمال. ولم يصل العرب إلى تلك المكانة في عالم البحار والوصول إلى مراتب الأمم البحرية الكبرى التي عرفها بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) إلا عن طريق التجارب الفنية وتجنب الأخطاء التي وقع فيها من سبقهم من الملوك وأصحاب السلطان على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.الدولة الأموية الأندلسية
واهتم أمراء الدولة الأموية الأندلسية حتى عام 138هـ بالجهاد البحري والبحرية والسواحل والأساطيل. ونشط أهلالأندلس في ظل الأمن والاستقرار بالأعمال التجارية والبحرية، فعمرت السواحل والموانئ، ودبت الحياة من جديد في حوض البحر المتوسط بعد أن كانت قد ركدت تقريباً، وانتظمت المواصلات البحرية في البحر الأبيض المتوسط كله بين الموانئ الإسلامية من سواحل الشام إلى سواحل الأندلس. وفي نفس الوقت نذرت جماعات من المسلمين نفسها للجهاد والبحري والغزو، وأخذت تغير على سواحل إيطاليا وصقلية وسواحل بحر ايجة، وهكذا أخذ البحر المتوسط يتحول إلى بحيرة إسلامية في ظل العصر الأموي.وكان العصر الأموي بصورة عامة عصر اهتمام المسلمين بالجهاد البحري والبحر الأبيض المتوسط، لأن الدولة الأموية كانت دولة بحرية تولي وجهها نحو البحر المتوسط ويرجع إلى خلفائها الفضل في وضع أساس القوة الإسلامية البحرية.يعود الفضل الكبير في بناء الأسطول العربي الإسلامي إلى الأمويين وتحديدا لمعاوية بن أبي سفيان، والي الشام في خلافة كل من عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وخليفة المسلمين لفترة طويلة تزيد عن العشرين عاما فيما بعد، حيث أدرك معاوية أهمية الأسطول في الدفاع عن السواحل أثناء قيام أخيه يزيد بفتح مدن الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، فقد تعرض للكثير من المتاعب في فتح قيسارية وطرابلس وعسقلان، لأنها كانت تتلقى الإمدادات من البحر.الجهاد البحري في عصر الدولة العباسية
لقد كان نشاط الأسطول الإسلامي في عهد الدولة العباسية أقل من نشاطه أيام الأمويين. وعندما انتقلت الخلافة إلى بغدادلم يواصل خليفة المسلمين النشاط البحري الذي كان يقوم به الخلفاء الأمويون في دمشق. ولكن هذا الهدوء النسبي لم يمنع الأسطول الإسلامي في العصر العباسي من حمل الجيوش عبر البحر الأبيض المتوسط، لتأديب ناقضي العهود في جزره، فقد نقضت صقلية عهدها في عام 132هـ فسار الأسطول لتأديبها بقيادة عبد الله بن حبيب وظفر منها بما لم يظفر به أحد قبله. وفي عهد هارون الرشيد نقض أهل قبرص عهدهم، فغزاهم عامله على سواحل مصر والشام معتوق بن يحيى فأدبهم وغنم منهم، وسبى سبياً كثيراً، كما يروى أن الخليفة المهدي قد سير جيشاً في البحر إلى بلاد الهند في جمع كثير من الجنود والمتطوعين، غازياً في سبيل الله تعالى.وبقيام الدولة العباسية سنة (132هـ/ 750م) وانتقال عاصمة الدولة الإسلامية من دمشق إلى بغداد تغير توجه الدولة الإسلامية ووجهة الجهاد البحري الإسلامي، فقد كانت وجهتها إلى الغرب وأوروبا وشمال أفريقيا عندما كانت العاصمة دمشق، أما وقد أصبحت العاصمة بغداد وهي غير بعيدة عن بلاد فارس في آسيا، فقد أصبحت اهتماماتها أسيوية وأصبح وجه الدولة آسيوياً شيئاً فشيئاً، وأهملت بلاد الشام بعض الشيء، وتركت مصر للولاة الذين كانت تبعثهم إليها، و أصبحت مصر بعيدة عن مركز الدولة الإسلامية.وهذا يفسر لنا قيام الدولة الطولونية ثم الإخشيدية ثم العبيدية الفاطمية، وهذه الدول حاولت بسط نفوذها ما استطاعت للسيطرة على بلاد الشام، وتحولت إلى ما عرف في المصطلح التاريخي بدولة ثم سلطنة مصر والشام وهي وحدة سياسية كبيرة أصبحت منافسة للدولة العباسية منذ انتقال الدولة العبيدية الشيعية إليها سنة 358 هـ/968م.الجهاد البحري في الأندلس
وهكذا قلت اهتمامات الدولة العباسية بالبحر المتوسط، وانتقلت معظم المسئولية عن مركز الدولة الإسلامية في البحر المتوسط من الدولة العباسية إلى سلطنة مصر والشام وما يليها غرباً من بلاد الإسلام حتى المغرب الأقصى والأندلس، وأصبح مركز الإسلام في الحوض الغربي للبحر المتوسط داخلاً في مسئولياتها، أما الحوض الوسط فأصبح من مسئوليات دول المغرب التي قامت في أفريقية والمغرب الأوسط، ومن حسن الحظ أن الدولة الأموية الأندلسية وكل بلاد المغرب من برقة إلى طنجة كانت تسكنها شعوب بحرية ذات تقاليد ملاحية ومعرفة بشئون البحر والتجارة البحرية، وهذا كله مكن المسلمين من زيادة سيطرتهم على الحوضين الأوسط والغربي للبحر المتوسط، في حين أن العناية بالحوض الشرقي للبحر المتوسط تركت لدولة مصر والشام والدولة العباسية.وأصبحت الدولة الإسلامية في الأندلس تملك أسطولين، الأول: في البحر المتوسط وقاعدته المرية، والثاني: في المحيط الأطلسي وقاعدته لشبونة. وازدادت القوة البحرية الأندلسية شيئاً حتى أصبحت أكبر قوة في الحوض الغربي للبحر المتوسط خلال الفترة (300هـ - 366 هـ).وكان للبحرية الأندلسية دور أساسي في إكمال السيادة العربية الإسلامية على البحر الأبيض المتوسط، ففي شرقه قامت أساطيل مصر والشام، وفي وسطه قام أسطول الأغالبة، وفي الغرب قام أسطول بني أمية الأندلسيين. وفي حماية هذه الأساطيل مضت البحرية الإسلامية وسفن المسلمين آمنة في البحر الأبيض المتوسط من شواطئ الأندلس في الغرب إلى شواطئ الشام في الشرق، ونشطت شعوب الإسلام البحرية فعمرت الموانئ وأنشأت دور الصناعة، وظهرت على سواحل المغرب والأندلس سلسلة من الموانئ التجارية والحربية التي أكدت سيادة العرب المسلمين على البحر المتوسط حتى نهاية القرن الرابع الهجري/القرن العاشر الميلادي.الجهاد الإسلامي في عصر الدولة الطولونية
منذ قيام الدولة الطولونية سنة 254هـ /868م اجتهد أحمد بن طولون في بسط سلطته على بلاد الشام، بعد أن دخلت في تبعية الحجاز، وبذلك بدأ ما يمكن أن نسميه دولة مصر والشام التي تحولت إلى خلافة في العصر العبيدي الفاطمي، ثم إلى سلطنة في العصرين الأيوبي والمملوكي.وقد دخلت في هذه الدولة سلسلة الموانئ وقواعد البحر التي تمتد من طرابلس الشام إلى الإسكندرية، وكانت دور الصناعة فيها تتكامل في العتاد البحري والمهارات الملاحية اللازمة للقيام بتلك المسئولية، فأشجار جبال الشام تقدم الخشب اللازم لبناء السفن كالشلنديات الكبيرة والأغربة، وجذوع أشجار الشام الفارعة تقدم صواري السفن بينما كان قماشها يصنع في مصر، وفي مصر أيضاً كانت تصنع حبال الليف، ومنها كان يؤتي بزيت الخروع والقار والمسامير وما إلى ذلك مما كان لازماً لصناعة السفن، وإذا كانت سواحل الشام تخرج كبار الربابنة القادرين على تسيير السفن وركوب البحار العالية، فإن ملاحي مصر كانوا من أشهر الناس في تسيير المراكب الصغيرة ذات المجاديف والشراع الواحد أو الشراعين، وكانت لهذه السفن الصغيرة أهمية في تكوين الأساطيل البحرية، وبخاصة عندما يحتاج الأمر إلى سفن صغيرة تسير بالمجاديف وتقترب من السفن الكبيرة لتشعل فيها النيران وتولى مسرعة.وقد تكاملت كذلك موانئ البلدين من اللاذقية وجبلة وطرطوس حتى دمياط ورشيد والإسكندرية، وفي كل من هذه الموانئ كانت تقوم دور الصناعة -أي مصانع بناء السفن- ولكن دار الصناعة الرئيسية في الشام كانت في جزيرة أرواد، أما في مصر فكانت دار الصناعة الرئيسية في جزيرة الروضة، ومنها تصعد السفن في فرعي رشيد ودمياط إلى البحر. وكانت هناك دور صناعة أصغر في دمياط ورشيد والإسكندرية، ولكن الاعتماد الأكبر كان على دار الصناعة في الروضة.الجهاد الإسلامي في عصر الدولة العبيدية الفاطمية
قامت الدولة الفاطمية في المغرب سنة 296هـ/ 908م وكان للفاطميين دور كبير في الجهاد البحري، وبخاصة بعد استقرارهم في مصر. والحقيقة أن انتقال الفاطميين إلى مصر وقيام دولتهم فيها كان فاتحة لعصر جديد من النشاط العسكري الإسلامي في شرق البحر المتوسط في البر والبحر، فقد تمكن الفاطميون أيام المعز والعزيز من بسط سلطانهم على الشام والتصدي للروم، وإخراجهم من بلاد الشام جميعاً وإعادة الجبهة الإسلامية إلى ما كانت عليه قبل إقدام أباطرة الأسرة المقدونية على العدوان على شمال الشام والفرات الأعلى.ولكن هذه النهضة الفاطمية تتجلى بصورة أوضح في عنايتهم بالبحرية وكل ما يتصل بها. وقد بدءوا في ذلك منذ قيام دولتهم في المغرب، فقد عرفوا كيف يستفيدون من الإمكانات البحرية الكبيرة التي تتيحها بلاد المغرب لصاحب السلطان فيها، من السواحل الممتدة ذات المواقع الكثيرة الصالحة لإنشاء الموانئ وتوفر أخشاب السفن والحديد اللازم لصنعها، ثم وجود جماعات من أهل المهارة البحرية والقدرة على ركوب البحار على سواحل المغرب كلها من رقة إلى طنجة.فمن الموانئ التي أنشئها العبيديون الفاطميون أو جددوا بناءها وأنشئوا دور الصناعة فيها: المهدية وأصبحت من ذلك الحين حصن الفاطميين الأكبر، وتونس وسوسة وسفاقس عنابة (بونة) وجيجل وبجاية ومرسى الدجاج ميناء وهران المعروف بمرسي أزرو وميناء تلمسان المعروف باسم مرسي هنين.وكان أكبر معين للفاطميين على هذا النشاط البحري، أن سكان سواحل المغرب كانوا من المشتغلين بالبحر من قديم الزمان، ولهم دراية على ركوب البحر وجرأة عليه، وكانوا كذلك طوال تاريخهم، فأفاد الفاطميون منهم، وتنبهوا لأهمية السيطرة البحرية كوسيلة لحماية أرض الإسلام، وأساس للتجارة ومورد للمال، فإن نشاط الفاطميين في الإغارة على السواحل النصرانية كان مورداً من أكبر موارد المال عندهم، وقد اشتهرت أيام عبيد الله المهدي غارة قام بها أسطول فاطمي على وادي وارى oria في كلابريا في إيطاليا عادت بغنائم وفيرة جداً.لقد كان اهتمام العبيديين الفاطميين بالأساطيل والقوة البحرية والجهاد البحري عظيماً، بهدف مواجهة البيزنطيين وردهم عن بلاد الشام، وقد قام الفاطميون بذلك ليظهروا أنهم حماة ثغور الإسلام دون العباسيين لهذا اهتم الخلفاء الفاطميون بالأسطول والجهاد البحري فأنشأوا ديوان الجهاد والعمائر ليضاهي بذلك خطة أشغال البحر، وأقاموا عليها قائداً يسمى صاحب أشغال البحر. واستطاع أسطول الفاطميين حماية سواحل مصر من عدوان الروم حتى زوال دولتهم.الجهاد الإسلامي في عصر الأيوبية
وتكررت حملات الفرنج على السواحل المصرية، وفي 564هـ/ 1169م قام الفرنج بحملة كبيرة على دمياط واحتلوها، وكان هذا كافيا لإقناع صلاح الدين الأيوبي بضرورة بناء أسطول قوي لمواجهتهم، وكان الأسطول في عهد من سبقه –العاضد العبيدي الفاطمي- عبارة عن بقايا عشر قطع بحرية فيها عشرة آلاف مقاتل. وكان لها ديوان يسمى بديوان الأسطول أو ديوان الجهاد، أو ديوان العماير.وعين صلاح الدين الأيوبي الحاجب الشيخ قسام اليد لؤلؤ أميرا للبحار ومنحه لقب مقدم الأسطول، حيث كان رئيسا عارفا بالريح والمجاديف والإرساء والدراية بمسالك البحر ومجاريه. وكان من المقدمين عبد السلام المغربي وبدران الفارسي، وعلى أسطول بيروت يعقوب الحلبي وزوده صلاح الدين بمخصصات من موارد فريضة الزكاة وموارد القرظ والمراكب الديوانية. واستخدم صلاح الدين في الأسطول عرب المغرب نظرا لخبرتهم بسواحل العدو وموانئه، وخبرتهم ومهارتهم البحرية.غزا الأسطول العربي ميناء عكا في عام 575هـ/1179م، واستولى على عدد من مراكب العدو وانتصر عليهم انتصارا ساحقا، وقد وصف صلاح الدين هذا النصر في كتابه إلى دار الخلافة في بغداد قائلا: "إنه لم يعهد من الأسطول الإسلامي مثله في سالف الدهر". وفي سنة 565هـ/1170م أغار على طرطوس التي كانت تحت سيطرة الاستعمار الصليبي على الساحل العربي السوري، مما أجبر بلدوين ملك القدس على طلب الصلح، فاضطر رايموند، أمير طرابلس إلى مهادنة صلاح الدين أيضا.المصدر: منتديات الياس عيساوي