[size=32][b]ما هو الكتاب المقدس؟
[size=32]اللواء المهندس أحمد عبدالوهاب علي[/size]
هذا سؤال طرحه علماء الترجمة الفرنسية المسكونية (العالمية) في بداية فصل بعنوان: مدخل إلى الكتاب المقدس، ثم أجابوا عليه بأنه:
"مجموعة كتب مختلفة جدًّا، تمتد على أكثر من عشرة قرون وتنسب إلى عشرات من المؤلفين المختلفين، بعضها وضع بالعبرية (مع بعض المقاطع بالآرامية) وبعضها الآخر باليونانية، وهي تنتمي إلى أشد الفنون الأدبية اختلافًا كالرواية التاريخية ومجموعة القوانين والوعظ والصلاة، والقصيدة الشعرية والرسالة والقصة.
صدرت جميع هذه الكتب عن أناس مقتنعين بأن الله دعاهم لتكوين شعب يحتل مكانًا في التاريخ بتشريعه ومبادئه في الحياة الفردية والجماعية..
أسفار الكتاب المقدس هي عمل مؤلفين ومحررين عرفوا بأنهم لسان حال الله وسط شعبهم، ظل عدد كبير منهم مجهولًا. معظم عملهم مستوحى من تقاليد الجماعة.
وقبل أن تتخذ كتبهم صيغتها النهائية انتشرت زمنًا طويلًا بين الشعب وهي تحمل آثار ردود فعل القراء في شكل تنقيحات وتعليقات، وحتى في شكل إعادة صياغة بعض النصوص إلى حد هام أو قليل الأهمية، لا بل أحدث الأسفار ما هي أحيانًا إلا تفسير وتحديث لكتب قديمة"[1].
أسفار الكتاب المقدس - إذن - هي كتب مؤلفة بكل معنى الكلمة، إذ أنها نتاج عمل "مؤلفين ومحررين"، انتشرت شفاهًا زمنًا طويلًا قبل تدوينها، ثم ما لبث هذا التدوين أن تعرض "لتنقيحات وتعليقات" كرد فعل لقرائها وكتبتها المسئولين عن الحفاظ عليها وتقديمها للناس، ويزداد الأمر سوءًا فيما يتعلق بمؤلفيها، إذ "ظل عدد كبير منهم مجهولًا".
إن الناس - كل الناس - في حياتهم اليومية يحتاجون إلى "وثائق" لا حصر لها، مثل: شهادات الميلاد والوفاة، والنجاح في الدراسة، وعقود البيع والإيجار..الخ، وكل وثيقة من هذه الوثائق تصبح لا قيمة لها على الإطلاق الإطلاق ويلقى بها في سلة المهملات إذا لم يعرف مصدرها المختص على وجه اليقين، فما بالنا إذا كان الأمر يتعلق بأسفار خلع عليها بعض الناس صفة القداسة باعتبارها كلام الله.
إن هذه الأسفار المجهولة المصادر - التي اعترف علماء الكتاب المقدس بوجودها بين دفيتة - تلقي بظلال كثيفة من الشك حول مقولة أن الكتاب المقدس هو كلام الله، ثم تقودنا إلى تقرير حقيقة أولية تصاغ بكثير من التساهل على أحسن الفروض في عبارة تقرر أن: ليس كل الكتاب المقدس كلام الله.
• • •
وتقول دائرة المعارف الأمريكية:
"لقد سجل الإسرائيليون حكمة الشيوخ وأقوالهم وسلوكهم والأحداث التاريخية الهامة، وواضح أن كل ما سجلوه لم يكن مختصًا بالمسائل الدينية، إلا أنه بعد أن استقرت حياة الطائفة الإسرائيلية بدأت تظهر بالتدريج، وعن غير قصد، عناصر من هذه الآداب اعتبرتها الطائفة ركائز لحياتها العقائدية، وبهذا أعطيت هذه العناصر وقارًا خاصًا تفردت به، وتحولت بذلك إلى كتابات مقدسة.. ولا شك أن الكتّاب الأصليين لهذه الكتب لم يدر بخلدهم أن ما كتبوه وسجلوه سيكون له مثل هذه القداسة في حياة الطائفة الإسرائيلية في يوم من الأيام"[2].
وهكذا تحول ما لم يكن مقدسًا في القرون الماضية إلى مقدس في القرون اللاحقة، تسفك دماء غزيرة من أجله، وتزهق أرواح كثيرة برغم أنها تقاتل في سبيل كلمة الرب!
• • •
محتويات الكتاب المقدس:
يتكون "الكتاب المقدس" من جزئين رئيسيين هما: العهد القديم والعهد الجديد. وهذه تسمية اصطلاحية وضعها المسيحيون.
ويتكون العهد القديم - حسب عقيدة اليهود والمسيحيين البروتستانت - من 39 سفرًا، بينما يضيف الكاثوليك 7 أسفار أخرى تحت اسم "الأسفار القانونية الثابتة". وهي مأخوذة من أسفار منحولة تعرف باسم الأبو كريفا.
ويتكون العهد الجديد من الأناجيل الأربعة: متى ومرقس ولوقا ويوحنا، وسفر أعمال المرسل، ورسائل بولس، ورسائل بعض تلاميذ المسيح، ورؤيا يوحنا،ويبلغ مجموع أسفاره 27 كتابًا، ولم يتفق على محتواه هذا إلا عام 367 ميلادية، أي بعد أكثر من ثلاثة قرون من رفع المسيح.
ويقول علماء "الترجمة الفرنسية المسكونية":
"ليس العهد القديم كل الأدب الذي صدر عن الشعب العبراني، بل هو نتيجة اختيار مؤلفات تعد كتبًا يعول عليها وتسمى لهذا السبب: قانونية.
تجمع تحت اسم "القانونية الثانية" عدة أسفار مختلفة التواريخ والفنون كان انتماؤها إلى "قانون" (أي القائمة الرسمية) الأسفار المقدسة موضع جدل على مر العصور، وهي: يهوديت، وطوبيا والكابيون الأول والثاني والحكمة ويشوع بن سيراخ ومقاطع من استير ودانيال خاصة بالترجمة اليونانية لهذين السفرين.هذه الأسفار جزء من القانون المحدد رسميًا في الكنيسة الكاثوليكية منذ المجمع التريدنتيني (1545-1563).
والكنائس الشرقية (الأرثوذكسية وغير الخلقيدونية) لم تتخذ قرارًا صريحًا في شأن هذه الأسفار.
أما المصلحون البروتستانت الذين ظهروا في القرن السادس عشر، فلم يعدوها قانونية، بل جعلوها ملحقًا للكتاب المقدس. وفي رأيهم أنها لا يمكن أن تصلح لبناء الإيمان. وفي المذهب البروتستانتي، تكون هذه الأسفار فئة من الكتب التي تسمى "أبو كريفة" أي منحولة.
وفي الكثلكة يطلق على هذه الأسفار اسم "القانونية الثانية" لأنها ضمت إلى القانون في وقت لاحق، خلافًا للأسفار "القانونية الأولى" التي ضمت إليه أولًا.
لا هذه التسمية ولا تلك تفيان بالمعنى المقصود لأنها لا تأتينا بأية معلومات دقيقة عن مجموعة الكتب هذه التي تخلو من أية وحدة داخلية.
إننا أمام نقطة تختلف فيها آراء الكنائس[3].
• • •
وهكذا، عبر القرون الطويلة وحتى اليوم، لا يزال المسيحيون يختلفون على محتوى كتابهم المقدس...!
نصوص الكتاب المقدس:
قضية نصوص الكتب المقدسة هي أخطر قضاياهم على الإطلاق، فالنص في أي وثيقة - دينية أو دنيوية - هو الذي يقرر حقيقة المقال، أو ماذا قيل بالضبط.
ويعرف "النص" بأنه: الكلمات الأصلية للمؤلف، بعيدًا عن أي شيء آخر قد يلحق بها نتيجة لتدخل الآخرين.
كما يعرف "السياق" بأنه: ما يأتي من كلمات قبل وبعد نص مكتوب قد يتكون من كلمة أو شبه جملة أو جملة أو تعبير، ويكون من شأن هذه الكلمات تحديد المعنى الدقيق للنص[4].
ويقرر علماء الكتاب المقدس أن نصوصه قد تعرضت للفساد والتحريف عبر القرون.
فبالنسبة لأسفار العهد الجديد، يقول علماء الترجمة الفرنسية المسكونية تحت عنوان: تحريف النصوص:
"لا شك أن هناك عددًا من النصوص المحرفة التي تفصل النص المسوري[5] الأول عن النص الأصلي. فعلى سبيل المثال: أن تقفز عين الناسخ من كلمة إلى كلمة تشبهها وترد بعد بضعة أسطر، مهملة كل ما يفصل بينها وبين غيرها.
أو أن تكون هناك أحرف كتبت كتابة رديئة لا يحسن الناسخ قراءتها فيخلط بينها وبين غيرها.
وقد يدخل الناسخ في النص الذي ينقله، لكن في مكان خاطئ، تعليقًا هامشيًا يحتوي على قراءة مختلفة أو على شرح ما.
والجدير بالذكر أن بعض النساخ الأتقياء أقدموا بإدخال تصحيحات لاهوتية على تحسين بعض التعابير التي كانت تبدو لهم معرضة لتفسير عقائدي خطر..
الحل العلمي الحقيقي يفرض علينا أن نعامل الكتاب المقدس، كما نعامل جميع مؤلفات الحضارة القديمة"[6].
وأما بالنسبة لأسفار العهد الجديد، فيقول علماء الترجمة الفرنسية المسكونية:
"إن نسخ العهد الجديد التي وصلتنا ليست كلها واحدة، بل يمكن أن يرى المرء فيها فوارق مختلفة الأهمية ولكن عددها كثير جدًا على كل حال.
إن نص العهد الجديد قد نسخ ثم نسخ طوال قرون كثيرة بيد نساخ صلاحهم للعمل متفاوت، وما من واحد منهم معصوم من مختلف الأخطاء التي تحول دون أن تتصف أي نسخة كانت، مهما بذل فيها من الجهد بالموافقة للمثال الذي أخذت عنه.
يضاف إلى ذلك أن بعض النساخ حاولوا أحيانًا، عن حسن نية، أن يصوبوا ما جاء في مقالهم وبدا لهم أنه يحتوي أخطاء واضحة أو قلة دقة في التعبير اللاهوتي، وهكذا أدخلوا إلى النص قراءات جديدة تكاد أن تكون كلها خطأ.
ومن الواضح أن ما أدخله النساخ من التبديل على مر القرون تراكم بعضه على بعضه الآخر، فكان النص الذي وصل آخر الأمر إلى عهد الطباعة مثقلًا بمختلف ألوان التبديل التي ظهرت في عدد كبير من القراءات.
ولا يرجى في حال من الأحوال الوصول إلى الأصل نفسه"[7].
وهكذا قرر علماء الكتاب المقدس أن أسفاره تعرضت للتحريف الذي بلغ حدًا استحال معه الوصول إلى النص الأصلي مهما بذل في سبيل ذلك من جهود مضنية وأبحاث مستفيضة! بل أنهم أقاموا علمًا يسمى علم نقد النصوص الغرض منه: " أن يوضحوا بجلاء نوع التدخل الذي قام به الناسخ والأسباب التي دعته إلى ذلك؛ فيسهل بعد ذلك الارتقاء إلى القراءة القديمة التي تفرعت منها سائر الروايات المحرفة".
وهكذا اعترفوا صراحة أن ما بأيديهم إنما هي روايات محرفة.
[1] كتب الشريعة الخمسة: ص33-44، وهي ترجمة عربية صدرت عن دار المشرق بيروت، عام 1984م، مأخوذة من الترجمة الفرنسية المسكونية التي قام بها 125 عالماً، وتعرف بالفرنسية TRADUCTION OECUMENIQUE de La BIBLE (T.O.B).
[2] دائرة المعارف الأمريكية، طبعة 1959، ج3، ص613.
[3] كتب الشريعة الخمسة: ص46-47.
[4] معجم أوكسفورد الإنجليزي، وروبير الفرنسي.
[5] "تطلق عبارة النص المسوري" على صيغة النص الرسمية التي قررت نهائياً في الدين اليهودي حوالي القرن العاشر بعد المسيح. وأقدم مخطوط مسوري بين أيدينا نسخ فيما بين 820-850 بعد المسيح. وهو لا يحتوي إلا على التوراة. (كتب الشريعة الخمسة: ص51).
[6] كتب الشريعة الخمسة: ص52.
[7] المعهد الجديد: منشورات دار المشرق، بيروت، الطبعة العاشرة، 1985م، ص7-8.
[/b][/size]
المصدر: منتديات الياس عيساوي