بسم الله الرحمن الرحيم
قصة امرأة تائبة إلى الله :
قصة امرأة تائبة إلى الله .. أكتبها كي تكونَ فيها عبرةً لأخواتي المسلمات .
إنني إنسانة مَنَّ الله سبحانه عليها بتوبةٍ نصوحٍ ، وإليكم قِصَّتي علَّها تفيدكم ..
لقد كنت حتى زمن قريب مع من أخذهم الشيطان إلى أغوار المعاصي ، فزَيَّن في قلبي حبَّ الدنيا واستهوتني ملَّذاتُها فأغواني شرَّ غويَّة .
وكنتُ كمن يتخبطه الشيطانُ من المَسِّ ، فلا أَدَعُ إثماً إلا فعلتُه ، ولا أتجنَّبُ معصيةً إلا ارتكبْتُها ، وكلُّ ذلك في سبيلِ إِشباع غُروري ونَهَمي في تحقيقِ رغباتي الشيطانيةِ ، والتي كلَّما حقَّقْتُ منها شيئاً قالتْ لي نفسي هل من مزيد ؟ وسلكتُ سبيلاً متفَرِعاً ليس له من نهاية ، كلما اعتقدْتُ أنني نِلْتُ مُرادي في أمر أجدني سلكْتُ فرعاً آخرَ من فروع الشيطانِ الشائكة بحبائله فأغْرَقُ من جديد في كيدِ ذلك اللعينِ .
وأُشهِدُ اللهَ .. أنني عندما أكون في أشدِ نشوتي في تحقيقِ ما أريد أتوَهَّمُ التسليةَ والسرورَ ، كان خوفٌ دفينٌ يعتريني يُذَكِّرني بالله !! فيُبَدِّدُ هِمَّتي ويكْبِتُها لِشِدَّة خوفي مما سأُلاقيه من مصيرٍ مُرْعِبٍ بسبب ما أرتكبُ من المعاصي والفسوقِ ، ولم أكن يوماً في حياتي أُحِسُّ بالسعادة المنشودةِ والتي لم أُوفّر سبيلاً توصلني إليها إلا اتَّبعْته ، ولكنْ شتَّانَ بين ما في داخلي وبين ما أُوْهَمُ به مِن حولي من سعادةٍ زائفةٍ ، ولكنَّه العنادُ والتعوُّدَ على منهجٍ لا أستطيعُ منه فَكاكاً ، فأُبعِدُ تلك المخاوفَ من مصيرٍ سيئ أكيدٍ وأنحّيها جانباً ، وأُلهي نفسي بمُجونٍ من نوعٍ جديد حتى ترغَبَه لأنَّها ملَّت كلَّ شيء ، كي تنسى مخاوفَها واحتقارَها لذاتِها .
وكنتُ في الوقت ذاته أُؤيِّدُ وأَغْبِط كلَّ فتاةٍ أو امرأة متديّنةٍ ومتحجِّبةٍ ، وأَشعر بأن قلبي يئِنُّ ببكاءٍ صامتٍ مُحرِقٍ عميق ، وبحسرةٍ تعتصرُ كياني ، وباحتقارٍ شديد لجميع سلوكي ولكن لماذا ؟! هل أريد خَلاصاً ؟! وأنَّى لي هذا ؟! وكيف العدولُ وقد تعوَّدتْ نفسي الحريةَ المطلَقةَ ، والانفلاتَ من القيودِ الاجتماعية والعُرْفية ، والاستهتارَ بالواجباتِ الدينيةِ ، فكنتُ إذا سمعت نداءً للصلاة أو تلاوة من القرآن الكريم أو حديثاً دينياً ، كنت أُصِمُّ أُذنَيَّ وأحاول إبطالَ المنشأِ حتى لا ينتابَني ذلك الخوفُ من مصيري مع اللهِ واحتقاري لمساوئي ، فألجأَ من جديدٍ إلى إلهاءِ نفسي بأيّ عملٍ يُشغِلُها عن هذا التفكيرِ ، فلا أدعُ شيئاً من تلك الأمورِ يتسرَّب إلى كياني فيهيّجَ تلك المشاعرَ التي تكاد تقْتُلُني ، وبقيتُ على هذا الحال سنواتٍ طويلةً ، وكان لي من الله عزَّ وجل على مدى تلك السنينَ هزَّاتٌ ونعراتٌ وتنبيهاتٌ ، فقد كان ربّي يحميني ويستُرني ويُنجيني في مواقفَ خطيرةٍ لا أستاهلُ رحمتَه فيها ، فأعلمُ في نفسي أن الله يُحبُّني ولا يريدُ فضيحتي ، وأنّه يدعوني إليه ولكنْ أنّا لي الاستجابة !! وأنا على هذه الحال من الفسوق .
وحبُّ الدنيا والموضةُ والملذَّاتُ على أشكالها قد أخذتْ مني كلَّ مأخذ وطوّقَتْني فشملتْ كلَّ حياتي ، واستحوذت على تفكيري حتى غدوتُ لا أستطيع التخلّيَ عن هذا الانفلات الذي أَعيشُه ، لا أعرف التقّيدَ بنظام.. نهاري ليلٌ ، وليلي نهارٌ .
وكم كنتُ أكره نومَ الناس في الليل لأنني أريدهم حولي ، أستأنسُ باللهوِ معهم حتى الصباحِ كي أَكْسرَ وحشةَ الليلِ بسلواهم ، وسكونَه بضجيجهم ، وظلامَه بصَخِبنا في ظلمات المعاصي ، وعلى الرُغْمَ من ذلك كنتُ عندما أرى الراقصين على حَلَبةِ المراقِصِ الليليةِ التي أدمَنْتُ السهرَ فيها أرى فيهم صوراً من عفاريتِ الليلِ - تتنطط - أمامي متراقصةً ، تتمايل بنشوةِ المسِ الشيطاني الذي أفقدَها صوابَها ، وجعل منهم أُضحوكَةً ومصدرَ استهزاءٍ لمن يراهم وهو متمتِّعٌ بنعمةِ العقل الواجدِ فيحَتقرُهم ويحتقرُ وجودَه بينهم ، وعندما أُشاركُهم مجونَهم بإلحاحٍ منهم كنتُ أرى نفسي شيطانةً في ثوبِ الإنسِ سخَّرَها وليُّها إبليسُ لإغوائهم ولزيادةِ جرعةِ النشوة فيهم ، فتستلبُ منهم إعجابَهم بمواهبِها وجمالِها بما يُرضي غرورَها الدنيء ، ويُشبع رغبتَها الشيطانيةَ باستئثارِ قلوبِهم وهيامهم واهتمامهم خالصاً لي ، فأُلهبُ مشاعرَهم بحركاتٍ راقصةٍ مركَّزة موحاةٍ من أستاذي إبليس اللعين .. ويحصُل مرادي في تحويلِ كلِ مَن حولي من الرجال عن صديقاتهم أو زوجاتِهم ، وبداخلي يتآكلني المقتُ من قِلَّة عقولهم التي سلَبتْها منهم كؤوسُ الخمرِ ، فأصبحوا مع كِبَر شأنهم في المجتمع أُلعوبةً في إصبع امرأة .
حتى زوجي الذي كان يتباهى بي أمامَ أُولئك الشياطينِ كنتُ أحتقرُه، أحتقرُ فيه استجابتَه لرغباتي وتطويعَ نفسه لأمري لشدة حبه لي، وأيضاً تحقيقاً لمآربه من أُولئك على حسابِ شرفِه ونَخْوَتِه ، إنَّه يجهلُ وبكل تأكيد الحبَّ الحقيقيَّ ، يجهلُ أنَّ المرأةَ عندما تحبُّ تطوِّع نفْسَها لمن تُحبّ ، وعندما تكره تطوِّع من يحبُها لأمرها ثم تسخَرُ منه وتحتَقرُه، ولا يعلم زوجي مدى استصغاري له إذ جعل رجولتهِ رهنَ إشارتي ، ولم يعلم بأنني كأيِّ امرأة في الوجود لا تُحب في زوجِها إلا الرجولةَ الحقَّةَ والشهامةَ التي يَصونُها بها ويحميها من شرّ نفسِها ومن شرورِ الآخَرين ، لتشعرَ بالأمان والاستقرار ، وبما أن فاقَد الشيءِ لا يُعطيه ، فأنَّى له ذلك برجولةٍ ممزّقةٍ قد أذابها في كبريائي ووضعها تحت قدمي وسحقها تلبيةً لرغباتي وحُباً لي وكَسباً لقلبي ، فيُضحِّي بأعزِ ما يتمتَّعُ به الرجل (العقل والإرادة والشرف ) .. ألم يعلم بأنّ كيدهنّ عظيم ؟ وأنَّهُن حبائلُ الشيطان يحيط من خلالها بمن يريد إستذلالهم وإذلالهم، ويُسخِرُهُنَّ لإغوائهم حتى يكونوا من أَتباعه ، ثم يَخنِقُهم بتلك الحبال ببثّ البغضاءِ بينهم فيفرِّق بين من كانوا أحبَّةً ؟!! فلا عجبَ إذاً من طلاق رجلٍ كهذا امرأتَه ولا بدّ .. وقد كان .
وهكذا كنتُ على الدوامِ في تناقُضٍ ، في نفسي ومع حياتي بشكلٍ عام .. فأَعيشُ ضمن دائرةِ التوتُّر لا أَنعُم بشيء من حولي ولا أُحِسَّ طعماً لسعادةٍ بما يُحيط بي من أسباب الاشمئزاز والمَللِ .
وعِشتُ بعد الطلاق حياةً مليئةً بالمخاوفِ من الطامعين بي ، متمنيةً زوجاً أفضلَ يستطيعُ أن يحميَني ويُبدِّد قلقي ، ولكنْ أين هو ضمن هذه النوعية الموحَّدة في ذلك الصنف الذي اعتدتُ معرفتَهم بالموارثة ؟! لم أعُد أرى أمامي إلا رجالاً بلا رجولةٍ ، يُدير رؤوسَهم ويذهبُ عقولَهم خيالُ امرأةٍ .. امرأةٍ تُغلِّف حقيقتَها أقنعةُ التمويه من ماكياج وزينةٍ وأزياءَ، دون أي درايةٍ منهم عن مضمونها .. لا يُكلّفون أنفسَهم مشقَّةَ الخَوض إلى داخِلِها ، ولا النظرَ إلى ما تحت الجلدِ .. فيكْتَفونَ بتلك القشورِ التي سرعانَ ما تُبلى ، وما أسهلَ تغييرَها والانتقال إلى مثالٍ آخرَ يُرضيهم .
كانت لي في حياتي حسنةٌ ولله الحمدُ .. بالإضافة لحُبي الشديدِ لمساعدةِ الناسِ المحتاجين ، وحبِ الخير للجميع فقد ربّيتُ أولادي تربيةً حسنةً ، فقد اكتسبوا أخلاقاً حميدةً .. وكان أن سافروا إلى بلدٍ غَربيٍ لتحصيلِ شهادات دراسيةٍ ، فوفَّقهم اللهُ بملاقاةِ أُناسٍ من أهلِ العلمِ في دين الإسلام وصَحبوهم مُدَّةَ سنيِّ سفرِهم ، فتعلَّموا منهم أمورَ دينِهم على شكلٍ سليمٍ ، وتعرَّف ابني البِكر على فتاةٍ غربيةٍ تدرس الدينَ الإسلاميَ في المسجد الذي يتواجد فيه ، ووجد عندها ميلاً كبيراً إلى هذا الدينِ ، وإليه أيضاً ، وكانت على جانِب كبيرٍ من الأخلاق الحميدةِ ، فتزوَّج منها، وبعد أكثرَ من سنةٍ دخلتْ في دينِ الإسلام ، ومن ثمّ تحجَّبتْ ، ثم حجَّت إلى بيت اللهِ ، وكانت نِعْم الزوجةُ ونِعْم المرأةُ المسلمةُ .
وكان أن زُرتُهم ومكثْتُ عندهم شهوراً .. شاهدتُ خلالها العَجَبَ.. بَهَرني إسلامُها وكيفيّةُ طاعتِها لزوجها ودينُها وقوةُ إيمانِها ، الذي لم أتوصَّلْ ولا إلى ذرةٍ منه وأنا المسلمةُ الأصلُ !! وكم كنتُ أتحرَّجُ من الظهورِ معها في الأماكنِ العامةِ وعند المعارِفِ من تناقض مظهري مع ما أدَّعية من الإسلام ، فهي الغربيةُ الحديثةُ العهدِ بالإسلام متحجِّبةً وفي بلدها الغَربي ، وأنا المسلمةُ أصلاً تجدني سافرةً ، فلم أستطع المكوثَ طويلاً مع هذا التناقضِ المُحرِجِ ، فاختصرْتُ المدةَ ورجَعْتُ إلى بلدي تلفَحُني خَلجاتُ الخَجلِ من هذا الفارقِ بيننا ، وتركتُ قلبي الذي أحبَّها كلَّ الحُب وتعلَّقَ بها تركتُه عندها ، وتركْتُها رغم توسُّلاتِها وابني للبقاء معهم ، ولأنها لم تستطع البعد عني لشدةِ تعلُّقِها بي، وقد قدَّمَتْ لي من الإغراءات ما يجعل أية - حماة - تعدِل عن ترك مثل هذه - الكِنّة - ، وهذه الإنسانةِ النادرة ، ولكن أنَّا لي أنْ أستجيبَ وقد كانتْ تناديني أهوائي ويُصمّ أُذُنَي شَوقي إلى ممارسةِ ما أدمنَتْ نفسي عليه ، فقد أصبحْتُ أسيرةَ عاداتي المكتَسَبةِ من محيطٍ فاسدٍ لا أستطيعُ الخلاصَ منه ، ولا العيشَ على غيرِ مَنهَجِهِ .
ولكنَّ الحقَّ يُقال : كنتُ وأنا في الطائرةِ متبعْثرةَ الفِكْرِ المتَشَتِّتِ ، في صراعٍ أليمٍ بين ما تشدُّني إليه عاداتي ، وبين صُورةِ تلكَ الإنسانةِ الملاكِ ، التي تركَتْ دينَ ولباسَ وعاداتِ أهلِ بلدِها المتفلِّتِ من القِيمِ الأخلاقيةِ إلا ما ندر منهم والْتَحَقَتْ بدينِ وحِشمةِ وعِفّةِ الإسلامِ ، لماذا كلُّ هذا ؟! لأنّها درسَتْه على عِلمٍ ، وتفهُّمٍ لشريعتِه وأصولِ فِقهِهِ ، فأحبَّتْه عن اقتناعٍ ، وأخذَتْ كلماتُها عن الإسلام تَرِنُّ في أُذُني طيلةَ الطريقِ .. الإسلامُ جيِّدٌ جداً ، نظيفٌ وهادي ، ومُريحٌ ، ومنْصِفٌ ، وأمينٌ ، وأنَّها لم تشعُرْ بالأمانِ والاطمئنانِ إلا عندما دخَلتْ هذا الدينَ ، وتزوَّجَت ابني ، للهِ الحمدُ .
فأصبحْتُ في مقارنةٍ بيني وبينها ، أنا كشرقيةٍ مسلمةٍ وهي كغربيةٍ قد رضَعتِ الحريّةَ المسيَّبةَ من ثدي أُمِّها ، فتركَتْ كلَّ شيءٍ مقابلَ حُبِ الله ودينِه ، وكعادتي دائماً أهرُب من هكذا تفكير حتى لا يُحبَطَ نشاطي وحَيويَّتي وهِمَّتي العاليةُ في اكتسابِ الإعجابِ وتحصيلِ الألقابِ .. مرّة يقال لي : ذاتُ الشبابِ الدائمِ ، وبعدها مثلُ الطبقِ الصيني من أينما ترِنُّه يَرِن، وبتاع كُله ، وأجملُ من بنتِ العشرين ، وإلى آخر هذه الألقابِ .. فكيف أُفَرِّطُ بما تَعِبْتُ في تحصيله وقد أخذتْني العِزَّةُ بالإِثْمِ ، فإنني حيث ما حللْتُ أُديرُ رؤوس الشبابِ قبل الرجالِ ، والفتياتِ قبل النساءِ ، فلا أُريد أنْ أَخْسَرَ تفوُّقي الدائمَ وفي كل المناسباتِ وكافّة المجالات ، لا أَدَعُ فرصةً لأيٍّ من بنات جِنسي أن تُظهِرَ ذاتَها بواحدةٍ من تلك المناسباتِ ، كنتُ دائماً آكلُ الجوَّ كُلَّه - ألفتُ أنظارَ الكُل- فأجد الفتياتِ خَجلاتٍ .. رُغم جمالِهن .. أن يُبرِزْن أيةَ موهِبَةٍ لَديْهِن أثناءَ وجودي ، ولم أتْركْ مجالاً لأيةِ فتاةٍ أن تأخُذ حَظَّها من لَفت نظرِ أي مُعْجَب ، وكان ذلك لي وحدي .. وتعوَّدْتُ على أن أستأثر باهتمام كلِ مَن حولي ، من الشلّة وغيرِهم ، وبعد أن أخلوَ إلى نفسي أحسُّ بأنانييتي ، وبأنني آخذ زماني وزمَنَ غيري ، وأكثرُ ما كان يحثُّني على ذلك : لقبُ .. مثلُ : - الحَبْلاس - ، أحبْبتهُ وأحبْبتُ الحفاظَ عليه، مع علمي بأنني في نَظَر بنات جنسي - سَفَرجِل -.. كلُّ لُقمةٍ بغَصّةٍ .. !!
وغرِقْت في بحر الذِكرَيات ، أتذكَّرُ تلك الفتاةَ في ذلك الموقفِ وهي تبكي من شدّةِ غَيظها لسَلبي منها إعجابَ حبيبها بها ، وتلك التي تركَتْ السهرةَ من أوَّلها هروباً من وجودي، وهذه المرأةَ الجميلةَ الوجهِ التي تحاولُ تنفيذَ بعضِ حركاتي الراقصةِ فوقعَتْ على رأسِها ، فجلسَتْ بمساعدةِ أفرادِ الشلّة وهي تبكي ألَماً وخَجَلاً ، وتراءَت أمامي صورٌ وصورٌ حتى نهايةِ رحلةِ عودتي تأخذني الكبرياءُ .
وصحوْتُ على جَرَس التنبيهِ لوُصول الطائرةِ إلى أرضِ الوطنِ ، ووصلتُ داري وكُلّي حنينٌ له ولأصحابي من الجِنسَين الذين انقطعتُ عنهم شهوراً .. لم يحصَلْ هذا من قبلُ، قد سافرْتُ إلى نفس البلدِ البعيدِ جداً ولم أغِب عنهم أكثرَ من عشرينَ يوماً ، وأيضاً في كل سياحاتي إلى بلدانِ العالم لا أمكُث في أحدها أكثرَ من أُسبوعين .. لذلك أَشعر بهذا الشوقِ الكبير إلى لقائِهم ، كيف نتجرّأُ على عمل المعاصي وعينُ الله ناظرةً إلينا !!؟ لا أدري .
إنتفاضة : مرحلة التمرُّد على الأنا ...
طبعاً كحال كل من عاد من سفرٍ طويلٍ ، لا يستطيع مزاولةَ أي نشاطٍ قبل أن يأخُذ قِسطاً من الراحة ، لانعدام النوم تقريباً في الطريق ، وتغيير الطقس بين البلدانِ .
وأثناءَ هذه الفترةِ ، أحسسْتُ بشعورٍ دخيلٍ على نفسي لم أعتَدْه من قبلُ ، وجدتُني أحاسبُ نفسي بطريقةٍ مغايِرة واتجاهٍ مختَلفٍ وأسلوبٍ جديدٍ.
لقد اعتَدْت محاسبةَ نفسي كلَّما خلوتُ في فراشي ، فألومُ نفسي على موقفٍ جَعَلَ فلانةً من الشلة تنكسَّر من عالي شموخِها واعتزازِها بنفسِها أمامَ رونَقي وجمالِ روحي وجاذبيَّتي التي أخذَتْ لُبَّ صديقِها ، فأُعَزّي نفسي بأنَّ هذا من نِعَم ربي الذي مَنحَني إيّاها ، فلا ذَنْب لي إذَنْ بعدم ثِقتِها بنفسها هذه مُشكلتُها هي ، وتلك .. وتلك ... إلى أنْ أغُطَّ في نعمةِ النوم كي أُجدِّدَ نشاطي لمواجَهة مواقفَ طريفةٍ وخَلقِ أحداثٍ جديدةٍ، متسلحةٍ بتباهٍ عالٍ بما مَنَّ عليَّ به ربي من جمالٍ وموهبةٍ .
أما الآن لم يكن هذا مجالَ مِحورِ المحاسَبةِ ، ليس هذا بسببِ غيابي عن الجو فانقَطَع ما يدعو إلى المناقشةِ مع الذات ، حيث تنتظرُ حدثاً يكون مادة الحوار ، أبداً !! لقد كان دأْبي في جميعِ حالاتي .. في السفرِ والحضَر لا أنفكُ ليلةً واحدةً عن تلك المحاسبةِ .. فهي من أهمِ عاداتي التي تساعدُني على النومِ ، فمن أجل ذلك أقولَ بأن مِحوَرَ المحاسبةِ الآن كان غير تلك المادة أصلاً ، وتلك النوعية الهازئةِ والباهتةِ، ولكن بطريقةٍ تقشعرُّ لها الأبدان .
الآن برزَتْ لي - الأنا - في حِلةٍ جديدة .. الأنا الفاضلةُ المحِبَّةُ للخيرِ .. بعد أن كانت على الدوام تحُثُّني على أن أكون ( َنْمَبر وَنْ ) .. الرقم الأول والأعلى في جميع مجالاتي الحياتية ، أما الآن فهي - أنا - قاسيةً خائفة على صاحِبَتها من مصيرٍ مُخيف تُحقِّقُه أعمالُها الجائرةُ ، هذه - الأنا - التي برزَتْ لي اليوم انقضَّتْ على مكامِنِ شعوري فحرَّكَتْ نزعةَ الخيرِ والخوفَ من المجهولِ الموجودَين بالفطرة عند أي إنسان ، ولكنه يخبتُهما بمزاولةِ الأعمالِ الفاسدةِ ، وطبعاً العكسُ بالعكس ، المسألة تتراوح من شخص لآخر .
فأيقَظَتْ - أنا - اليومَ هذا الخيرَ المكبوتَ بالأعماقِ مرةً واحدةً ، تعاتِبُني وتَهُزُّ إحساسي كي يَصحى من خَبْوتِه ليدرَأَ عنّا شرَّ ما تُقدِّمُ يداي، تقول لي : إلى متى هذه الغفلةُ ، إلى متى هذا الاستهتارُ بالعُمرِ وقد بدأ العدُّ التنازلي ، والسنينُ والأيامُ يطوي بعضُها بعضاً بسرعةٍ مُذْهِلة ؟! إلى متى هذه المكابرةُ وهذا العنادُ وهذا الشَغَبُ السلوكي ؟! إلى متى ستأخُذُكِ العزّةُ بالإثم فتُبِهرُكِ الألقابُ المُغَرِرَةُ مُستَغِلَّةً ما مَنَّ به عليكِ اللهُ من نشاطٍ وفَرْطٍ بالحيوية في إظهارِ النقصِ عند الأُخْريات متسبِبةً لهنَّ بعُقدٍ نفسيةٍ مؤلِمَة ؟! إلى متى هذه المسيرةُ مع معصيةِ الله حتى يكونَ فيها هلاكُك ؟!!.
فكانت تارةً تُرْعِبُني من عِقابٍ شديدٍ ، وتارةً تُرَغِّبُني بتركِ هذا الغرورِ والتحوّلِ إلى طريق الخيرِ ، إلى طريق السلامةِ ، إلى طريق النورِ الإلهي ، طريقِ الحقِّ ، وتَحُثنُّي على توبةٍ نصوحٍ أُسَخِّر كلَّ مؤهِّلاتي لمسيرَتها ، وأستَغلُّ مواهبي في طاعةِ الله عزَّ وجلَّ ، التي سأكون في أَمَسِّ الحاجةِ إليها لتكونَ عبادتي على أحسنِ وجهٍ ، ولكنْ أنّى لي هذا وقد تملَّكتْني عاداتي ومساوئي التي لا أتخيَّلُ العيشَ بدونها ، وحاولْتُ أن أُذهِبَ هذا التفكيرَ من نتائجِ تلك المحاضرةِ مع - الأنا - ، كالعادةِ أهربُ من أي شعورٍ بالذنبِ فوراً وبأي طريقةٍ ، لا أدع مجالاً لسيطرةِ عقلي على نفسي ولا لثوانٍ ، ولكن وجدْت في نفسي الآن تجاوباً واستكانةً ، لا أرى فَكاكاً منها اليوم كالعادة السابقة ، كنتُ مستسلمةً كلّياً لتكملةِ ما تُمليه هذه - الأنا - عليّ، فلفتَتْ نظري إلى أنَّ هذا الجمالَ كلّه سيذهبُ بالموت ، وهذا الجَسَد الذي تتباهِينَ به سيَأكُلُه الديدانُ في الترابِ ، و سينعدمُ كُلُّ حِس كان منكِ وينتهي كلُّ شيء بعد الموتِ ، اِعقلي يا هذه وارجِعي إلى مَولاك الذي خَلقَك فأحسَن خَلْقَك ، فوهَب لكِ هذه الصحةَ والحيويةَ التي تَصرِفينهما في غير ما خُلِقَتْ له ، وعلى غير ما وَجب عليكِ عملُه ، فتركتيها ألعوبةً في يَدّ الشيطانِ .
إلى متى تلهثين لحُب هذه الدنيا طالما تعرفين أنها زائلةً ، منتهية بنهاية حتمية ؟!! لماذا لا تُنِقذين نفسَك من بَراثِنِ ذلك اللعينِ الذي سيودي بك إلى هلاكِكِ ثم يتبرَّأُ منك ؟! ووجْدتُني رويداً رويداً أنصاعُ إلى نصائحِ - الأنا - وبياناتِها السابقةِ ، بدأتُ أشعرُ بالخَجَل منها عند أي سلوك خاطئٍ ، وأصبحْتُ أكرَهُ كلَّ من سبَّبَ لي أو دعاني أو شجَّعني على أي خطأ ارتكبَتْهُ نفسي الضعيفةُ ، وبدأ الاستغفارُ يأخذ طريقَه إلى لساني ، حتى تعوَّدْتُ أن لا أنامَ قبل أن أَستغفر ربي من كلِ عملٍ مُخزٍ قمتُ به ، وأنا أشعُرُ بخجلٍ يجتاحُ كياني فيُلَملِمُني حول بعضي في فراشي ، ارتَعِدُ خوفاً وخَجَلاً من أعمالي المستَهتِرةِ ، إلى أن تحوَّل هذا الشعورُ بقُدرةِ قادرٍ إلى قناعةٍ قويةٍ شَحَذَتْ عَزيمتي على تَركِ أمورٍ كثيرةٍ كنت لا أَطيقُ التخليَ عَنها .
اختيار الطريق الأمثل للتوبة :
وأوَلُ عملٍ هداني إليه ربي هو تَركُ تلك الشلةِ وجميعِ من عَرفْتُ فيهم السوءَ من المعارفِ ، وذلك بالاعتذارِ أولاً من زيارتِهم لي بمناسبةِ عودتي بعد هذا السفرِ الطويل ، فلم أسمَح لأحدٍ أن يدخُلَ بيتي ، ومن ثم اعتذاري عن السَهَر معهم لأنه لا طاقةَ ليَ اليومَ على تحمُّل سخافاتِهم ، وتبديداً لظنونهم جاءوني متتابعِين يستفسرون عن هذا التغيُّرِ المفاجِئ ، أَهُو كَيدٌ جديدٌ أَكيدُه لهم ثم أُفاجئُهُم بمظهرٍ جديد لا يعرفونه قبلُ كما كنتُ أفعلُ ؟! أم أنني مُنزعجةٌ من تَصَرُّفٍ ما من قِبَلِبهِم ؟! فكان جوابي لكلٍ منهم : إنني أريد أن أعيشَ حياةً مغايِرةً لما كُنت عليه ، وبكلِ جُرأةٍ صارحْتُهم بأنني لا أريد أياً منهم أن يشارِكَني حياتي الجديدةَ ، فظنوا أنني أُسِرُّ عنهم مشروعَ زواجٌ سِرّي ، تركتُهم لظَنّهمُ الغبيّ ، لأنهم يَعلمون جيداً بأنني لستُ بالتي تَخْتبئِ بزواجٍ من هذا النوعِ على كثرةِ ما عُرضَ عليَّ ذلك وعلى معرفةٍ منهم ، تركتُهم يظنون بيَ الظنونَ لأنني أنا نفسي لا أدري ما بي وماذا أريدُ ولماذا ؟ وكيف هذا الانقلابُ الجَذريُّ المفاجئ، الشاملُ لكل تفكيري وعملي .
ومن ثم هَمَدَتْ رغبتي باعتنائي بَمظهري، وبشكلٍ مُشينٍ مْبتَذِل ، فتركتُ الكوافيرَ وبُيوتَ الأزياءِ ، والتي طالما سافرتُ لحضورِ عُروضِها وشراءِ النفيسِ والغريبِ والجديدِ منها، حتى في سفري هذا لم أَرْغَبْ بشراءِ أيِ شيءٍ من هذه الأمورِ .
وأصبَحَتِ - الأنا - هي الآمرةُ والناهية لجميع تصرفاتي ، لا تَدَعُني أتملَّصُ من إرشاداتِها لأي عُذر ، تحبسني أياماً داخلَ البيت الذي ما كنتُ سابقاً لأطيقَ المكوثِ فيه أكثرَ من ساعاتِ النومِ والقيام ببعض الأعمالِ المنزلية ، وأخذْتُ أتلهّى عن ملاقاتِ الناس بمتابعةِ برامجَ التلفاز، التي لم أكن أحتَملُ متابعةَ أيٍّ منها ، فلا وقْتَ عندي لكي أضَيِّعَه في سخافاتٍ تُبعِدُني عن الأصحابِ ، الذين أصبحْتُ دونهم كسمكَةٍ بلا ماءٍ عَجَبي !.. كلَّ العجبِ أنني أصبحْتُ في استغناء عنهم الآن !.. لقد انتصرْتُ على وهْمٍ من وحْي أستاذي سابقاً إبليس ، بأن موتي في تركِهِم، أو البُعْدِ عنهم .. لأني أصلاً أكرهُ مساوئَهم ، ولكني أَقسر نفسي على معاشَرَتهم لأُحَقّقَ ذاتي بينَهم ، وأُرضي غروري معهم ، ويُزَيَّن لي اللعينُ أعمالي لأنَّه يخشى أن أتفلَّتَ من عُقالِهِ ، فيزيد من جُرعة هذا الوهم ، بأعمالٍ يعرف بأنها تستهويني .
أصبحْتُ أستطيع المكوثَ لمشاهدةِ التلفازِ أغلبَ ساعاتِ النهار والليلِ ، أنتقلُ من مشاهدةِ قناةٍ إلى أخرى جاعلةً - جهاز التحكم ، الريموت كنترول- وسيلةً هدفُها إِبعادُ المَلَل من شيءٍ لم أعتَدْه ، ثم تعودْتُ على هذه النَقْلَةِ العجيبةِ في حياتي والغريبةِ عني ، والتي كنْتُ استنِكرُها على كل مَنْ تعوَّد على متابعةِ البرامجِ التلفزيونيةِ .. وأصبحْتُ أعتذرُ عن زيارةٍ تِلْوَ الأُخرى ، وعن مناسبةٍ تِلْوَ الأُخرى ؛ وحَجَّتي التي أُبديها لهم أنني لا أستطيعُ ترك متابَعَة ذلك المُسَلْسَلِ ، وذاك الفِيلمِ ، فلم تُصَدِّق آذانُهم ما تسمعُ من عجائِبِ أمري ، فَمستحيلٌ وصول ذلك إلى قناعتِهم ومن ثم تصديقه .
طريق التوبة :
لم أكن أدري أنَّ العنايةَ الإلهية تُسيِّرني وتدعوني إلى طريق الحقِ، لم أكنْ أدري أنَّ هذا تهيئٌ لطريقٍ جديدٍ أعانني عليه أرحمُ الراحمين .
تعوْدت المكوثَ في البيتِ أياماً لا أخرجُ منه إلا لشراءِ الحاجاتِ الضروريةِ ، وبلباسٍ بعيد عن الابتذال . أصبحَتْ نفسي ترتاحُ إلى الاحتشام في كل شيء ، وأخَذَتْ تصارعُ رغباتي الشيطانية من كل جهة في مدة عام تقريباً .
وجاء شهرُ رمضانَ المباركُ ، فأصبْحت أُتابع المسلسلاتِ الدينيةَ، ومحاضراتِ الفقهِ الإسلاميّ ، وبرامجَ تُبَيَّنُ عَظَمةَ الخالقِ .. من عالَمِ البحارِ ، وعاَلمِ الفضاءِ ، إلى عالَمِ الحيوانِ، والنبات ، والهوام .. فكانتْ مشاهدةُ تلك البرامجِ تُوقِعُ في قلبي وعَقلي أثَرهَا البالغَ ، فتَهُزّ ُأعماقي وتشُدُّني للتقرُّبِ إلى هذا الخالقِ العظيمِ ، فبدأْتُ أرغَبُ في عبادةِ اللهِ القديرِ بعدما وَعيْتُ وعرفْت عظمتَه ، فتُبتُ إلى الله بنيةٍ صادقةٍ ، وأَخَذْتُ أُصَلّي فَرضي ، مع متابَعةِ برامجَ التلفازِ ، وسماعِ الأغاني وأُبدي رأيي بهذا المُطربِ وبتلك الفنَانةِ ، ثم وجدتُني رويداً أتملْمَلُ من تلك المشاهداتِ .
وأحياناً أُحس بالخَجَل من مشاهدةِ العورات ، أتخيَّل أنَّ ربي يراني وأنا أُتابعُها ، فأَقِلبُ القناة إلى برامجَ تمثيليةٍ لا عوراتٍ فيها إلا ما نَدَر ، لأنه وللأسف لا يخلو الأمرُ من ذلك حتى في المسلسلاتِ الدينيةِ ، فنجدُ بعض الأدوارِ النسائيةِ فيها بمنتهى الفجورِ ، ولا داعي لذلك إلا لشدِّ اهتمامِ الجمهور أو لأمرٍ تجاريٍّ بَحْتٍ ، على الرغم من أن الشخصيةَ في هذا المسلسل تكون لامرأة صالحةٍ !. فنشاهد التي تُمثِّلها في أجمل ثيابٍ وزينةٍ ، تُشَوِّهُ أصلَ الهدفِ ، وحتى المسرحياتُ الضاحكةُ لم أَعُد أُطيق رُؤيَتَها ، لأنَّ - أناتي - تبرزُ لي وتهمسُ، أتضحكين وأنت فعلتِ ما فعلت من المساوئ ، والتقصيرِ في عبادة الله ؟ هل يا ترى بقي بالعُمر ما يكفي للتعويض ، إلى متى ستهدُرين الوقتَ وتضِّيعينه هكذا ؟ وأصبحتُ أكره التلفاز أيضاً لما وجدْتُ فيه من إباحيّاتٍ مُخْجِلةٍ .
فهداني اللهُ إلى مطالعةِ كتابٍ كان ابني قد أهدانيه عندما زُرتُه في بلادِ الغرب ، وكم تمنَّى علي وقْتَها أن أقرَأَه ، فقط جاملْتَه بقراءَة بِضع صفحاتٍ وتركْتُه جانباً ، لأنه كتابٌ دينيُّ وأنا لم أعتَدْ إلا قراءَةَ المجلاّتِ الفنيةِ والقَصصِ العاطفيةِ التي كُنْتُ شَغوفةً بقراءتِها ، إلى جانب مطالعةِ الكتُبِ الأدبيةِ والعِلميةِ والطبيَّةِ ، أما كتُبٌ دينيةٌ فهيهاتَ أن أستَحمِل قراءَتَها ، أما اليومَ فإنني أجدُ في نفسي رغبةً ولهفةً إلى قراءةِ ذلك الكتابِ ، علمْتُ بعد قراءَتِه بأن دافعاً إلهياً ألهَمني قراءَتَهُ ، وعندما قرأْتُ ما كنت قد قرأْتُه من قبلُ تبيَّن لي أنّه يوضِّح صورةً جليّةً ومغايرةً عما قرأتُه مسبَقاً ، وعما وصل إلى مداركي من معانٍ مُبهمَة لم تُحرِّكْ عندي ساكناً ، أما اليومَ فإنّ كلَّ صفحةٍ أقرأها تَهزُّ أعماقي وتُنيرُ مداركي أشدَّ من الصفحةِ التي قبلَها ، وما وصلت إلى رُبْعِ الكتابِ حتى أحْسَسْتُ بأنني نُقِلتُ نَقْلَةً هائِلَةً من عالَمٍ إلى ضِدّه ، وأحسَسْت بألمٍ شديد في رأسي وبدُوار يلفُّ بي الكرةَ الأرضيةَ ، وكنت كمن ضُرب على رأسه بآلةٍ حادةٍ، ولم أَعُد أتجرّأُ أن أُمارِسَ القراءةَ ، قد خانَتْني قُوايَ الفِكريةُ على متابعةِ ما أقرأُ على مدى يومين ، وأنا في لَهفةٍ وشَوقٍ إلى هذه المتابعةِ .
ولكي أعيشُ تحتَ تأثيرِ ما قرأتُ ، مما عرْفتُ من شأنِ الله في قُدرته وعَظمَتِه ، وعِقابه وجَزائِه ، فهيمن على كياني الشعورُ بالخوفِ والخجلِ من أعمالي وإِهمالي في معرفةِ خالقي وما يريدُه من كل عبدٍ خلَقَهُ ، وما دَورُ الإنسانِ في التكليفِ الإلهي له في هذه الحياةِ الدنيا ، وكيف أنَّ هذه الحياةَ بمثابةٍ جِسرٍ نَعبُرَه إلى الله ، إلى الحسابِ .. فإمّا الجزاءُ بالثواب، وإما بالعذاب !.. ولكل نفسٍ ما عَمِلَتْ .
وما أن أتمَمت قراءةَ الكتابَ حتى بَدَوْتُ إنسانةً أُخرى ، أَحَسَّتْ إنسانيتَها التي هَدَرَتْها رخيصةً بين أنيابِ إبليسَ وأوليائه ، هذه الإنسانيةُ المقدَّسَةُ التي توَّجَها خالقُها بعقلٍ شرَّفها به كي تُدركَ وحدانيَّتَه وعَظَمتَه ومعرفَتَه ، ومن ثم طاعةَ أوامِرِه ، والانتهاء عن معصيتهِ ، أين أنا يا إلهي من هذا كلِّه ؟؟ وأين باقي الناسِ الغافلينَ الجاهلينَ هذا كلَّه ؟!
إلى متى يا ربُّ ؟.. يا ربُّ أريدُ خَلاصاً من هذهِ الازدواجيةِ الكريهةِ بين العَمَل والفِكرِ ، وهذا التناقضِ العجيبِ بين العِلْمِ والعَمَلِ ، وهذا الصراعِ المميتِ بين حُبِّ الحياةِ والخوفِ مما بعد الموتِ ، إلهي أتوسَّلُ إليك أن تُلِهمَني رُشدي ، إلهي خُذْ بيدي حتى تُبَلِّغَني رضاك ، إلهي أُقسم عليك باسمِك الأعظمِ أن تُعينَني على حُسن عبادَتِك وتَقْبَلَ توبتي لوجهك الكريم ، إنَّك تعلمُ يا إلهي بأن ما من أحدٍ في هذه الدنيا يهمُّني إرضاؤُه ولا محبَّتُه بعد معرفَتِك إلا أنت ، أستغِفُرك يا الله لذنوبي جميعِها وأتوبُ إليك يا الله ، ألتَجئُ إليك يا الله ، أحتَمي بك يا الله ، أستعيذُ بك يا إلهي من شَرِّ نفسي ومن شرِّ الشيطانِ الرجيِم ، ومن شّرِ كل إنسانٍ لئيمٍ ، أستغفرُك يا عظيمُ من كل ذنبٍ عظيمٍ ، إنَّه لا يغفرُ الذنبَ العظيَم إلا العظيمُ .. يا ربُّ .
صحوة من غفلة :
أدركْتُ الآن بيقينٍ أكيدٍ بأن عنايةً إلهيّةً رعَتْني وأَحاطَتْ بي وأعاَنْتني على التخلُّصِ من أوزاري ، ومن حُبي للدنيا وملذَّاتِها ، وتعلُّقي بمعاشرةِ الناس المستهترِين لدين الله ، وساعَدني اللهُ تعالى على توبةٍ نصوحٍ لا رجعةَ فيها إلى تلك المعاصي برحمتِه وهُداه .
وبدأْتُ المسيرةَ الجديدةَ المغايِرةَ لكل ما مضى من حياتي ، حتى مشاهدةُ التلفاز لم أَعد أَجدُ لها معنىً ولا وقْتاً ، بل كرَّثتُ وقتي لتعلّم أمورِ ديني وتفسيرِ كتاب الله ، الذي أصبحَ من أحبِّ الأمورِ إلى قلبي وعَقلي ، وبعد ما عرفْتُ أن الطريقَ إلى اللهِ هو معرفتهُ ، وأنَّ الوصولَ إلى حُبّهِ وسيلتُه العلمُ والمعرفةُ ، وأننا إنْ لم نَعرفِ الشيءَ لا نُحبُّه ، وذلك يستوجِبُ الدأْبَ على مطالعةِ الكُتُبِ الفِقهيّةِ القيِّمَةِ للتوصُّلِ إلى حُبٍ حقيقيٍ لخالقٍ عظيمٍ ..
وهذا يستوجبُ أيضاً صَبراً ووقتاً ، وأصبَح ذلك متوفِّراً لديَّ بعدَ أن طلَّقْتُ حبَّ الدنيا ثلاثاً ، وتعلَّمْتُ الدعاءَ فأصبحَ سبباً لقيامي بالليل لممارسَتهِ ، أدعو ربي وأُناجيه وأرجوه قَبولي عِنده وأن يَرزُقَني حُبَّه وعفَوه ومغفرتَه ، وأخذ فؤادي قراءةُ القرآنِ .. تستوقِفُني آياتُه ، أتعمَّقُ في كَشف مضمونِها وهَدفِها ، وأتدبَّرُ معانيها بمساعدةِ كتيِّبٍ يُفسِّر ما يصعُب على القارئِ فَهمُهُ .. فكانت فترةُ ما بين صلاةِ الفجرِ وصلاةِ الضُحى من أمتَع ما أَشعُر به طيلةَ وقْتِ عباداتي المتَنوِّعةِ ، وكم رغِبْتُ الاستزادة منها بعد أن ذُقْتُ حلاوتَها ، وهكذا على مدى أَشهر ، وكلّما رجَعْتُ إلى قراءةِ سورةٍ من القرآن أجِد فيها جديداً عما فهْمتُه من قَبلُ ، فأَعلمُ بأنَّ اللهَ ينير لي بصيرتي في كلِ مرةٍ على نحوٍ أفضلَ من سابقتِها، وبأنَّ المعرفَة تأتي تدريجيّاً.لقراءة ما تبقى من القصة المرجوا الضغط على هذا الرابط
http://info-islamweb.mountada.net/t3598-topicالمصدر
http://www.nabulsi.com/المصدر: منتديات الياس عيساوي